للأخ الدكتور الفاتح الحسن منشور على الجزيرة نت (اكتوبر 2024م) ..* خلافة سلفاكير في جنوب السودان بين تنافس المجموعات وسيناريوهات العنف والانقلابات
*للأخ الدكتور الفاتح الحسن منشور على الجزيرة نت (اكتوبر 2024م) ..*
خلافة سلفاكير في جنوب السودان بين تنافس المجموعات وسيناريوهات العنف والانقلابات
*د. الفاتح الحسن المهدي…*
ترتفع درجات الحرارة السياسية والعسكرية في جنوب السودان وجواره الأفريقي ولدى الضامنين لاتفاق السلام الأخير في الدولة الوليدة: جمهورية جنوب السودان لعوامل متعددة؛ فعندما سرت موخراً تسريبات وشائعات بشأن الحالة الصحية للرئيس سلفاكير ميارديت وأنه قد أصيب بشلل جزئي، إذ عمت هذه الشائعات الأوساط المختلفة مع حالة من الخوف والترقب والقلق؛ لتزداد الهواجس بعد شائعة وفاة سلفاكير حتى تبين للجميع بأن الوفاة كانت شقيقة الرئيس وليس هو نفسه. هذه هي المرة الثانية التي تنتشر فيها شائعة وفاة الرئيس سلفاكير مما يرفع من درجة الاضطراب وعدم اليقين مما سيحدث في الدولة المضطربة أصلاً والغارقة في دوامة العنف المتزايد منذ انفصالها عن السودان في العام 2011، حيث نظام حكم هجين وغير ديمقراطي وغير مستقر فهو أوليغارشي وعسكري إلى حد كبير.
تولى سلفاكير منصب رئيس الدولة في السودان الموحد قبل انفصال إقليم جنوب السودان في 9 يوليو 2011، بعد أن خلف رئيس الحركة الشعبية العقيد جون قرنق في منصب نائب الرئيس السوداني عمر البشير- آنذاك- وليصبح أيضاً رئيساً للحركة الشعبية لتحرير السودان الحزب الحاكم للدولة الوليدة فيما بعد.
سلفاكير هو أبرز جنرالات الجيش الشعبي وهو مولود في عام 1951، وينحدر من منطقة “قوقريال” ببحر الغزال والتي تعتبر المعقل الكبير والمنافس لمجموعات قبائل دينكا بور ودينكا ملوال، والذين يتنافسون علي القيادة السياسية والعسكرية وقيادة الدولة الوليدة حيث تشكل قبيلة الدينكا أكبر مجموعاتها السكانية تليها قبيلة النوير.
وتلعب قبيلة الدينكا- التي تنحدر منها الطبقة السياسية والعسكرية الحاكمة- الدور المحوري والمؤثر في جنوب السودان مما يزيد من تعقيد المشهد الحاضر في الدولة الأحدث في أفريقيا حيث تاريخ من المواجهات الدامية وموجات من التطهير العرقي والمجاعات والاغتصاب وهو ما لخصته تقارير خبراء الامم المتحدة العديدة بشأن الحرب التي استمرت بين هذه الأطراف لعدة سنوات مما عمّق هوة الانقسامات وأثر علي البُني الاجتماعية للدولة الجديدة والتي يغلب عليها طابع الهشاشة، والانقسامات الحادة، رغم توقيع اتفاق السلام في العام 2018 والذي كرّس حالة اللاسلم واللاحرب بين القبيلتين وهو الأمر الذي يصب في مصلحة هؤلاء المتنافسين.
جدل التأجيل المستمر للانتخابات
ظلت المجموعات السياسية الحاكمة في جنوب السودان تؤجل معالجة القضايا العالقة في ظل شراكة من التاريخ الدامي بين الطرفين واضطراب العلاقات بين المجموعات العرقية والمجموعات المسلحة، فإن البحث عن صناديق الاقتراع يظل مثل البحث عن خاتم سليمان. ومثلما توقع المراقبين أعلن مكتب الرئيس سلفاكير ميارديت عن تأجيل الانتخابات المقرر إجراءها في ديسمبر 2024 إلي ديسمبر 2026، مبرراً ذلك بالحاجة إلى وقت إضافي لإكمال المهام الأساسية التي نصّ عليها اتفاق السلام والمتعلقة بالدستور وعدم إكمال المهام الضرورية للإنتخابات كإجراء إحصاء سكاني وقيام المفوضيات المختلفة وتوحيد الجيوش لضمان عمليات الاستقرار السياسي، عبر رُعاة جنوب السودان والضامنين لاتفاق السلام عن خيبة أملهم وقلقهم من خطوة تأجيل الانتخابات واستدامة السلام الذي يمر بأوضاع حرجة ومعقدة. لاسيما في ظل الخلاف بين الرئيس ونائبه وصعوبة تنفيذ المصفوفة الأمنية المعقدة ووجود صراعات فصائل مسلحة علي أسس عرقية في أجزاء متفرقة من البلاد.
مجهودات ذهبت مع الريح
بذلت دول الجوار الجنوبي والرُعاة الدوليين لسلام جنوب السودان مجهودات كبيرة لجمع الشتات الجنوبي في مفاوضات استضافتها نيروبي بحضور عدد كبير من رؤساء دول الجوار والاتحاد الأفريقي والإيغاد والاتحاد الأوروبي والمبعوث الخاص الأمريكي للقرن الأفريقي مايك هامر، والذي حث قادة دولة جنوب السودان بالوفاء بإلتزاماتهم وذكّرهم بأن هناك كثير من الوعود التي لم تحقق، وهو ما يعكس إمتعاض أمريكي تجاه الطرفين تحالف المعتقلين السياسيين والمعارضة المشهور بـ “سوما” والذي مثّله السيد باقان أموم الأمين العام السابق للحركة الشعبية (الحزب الحاكم) والذي شنّ هجوماً عنيفاً علي حكومة سلفاكير ودعاه إلى تغيير عقلية الحرب وأن هذه هي الفرصة الأخيرة لانتشال جنوب السودان من أزماته المتعددة مجهودات الجوار إستطاعت إشراك الجنرال بول ملونق قائد أركان الجيش الشعبي السابق و”الجبهة المتحدة” بقيادة الجنرال ياو ياو وغاب عن الحوار الجنرال توماس سريلو الذي يمثل “جبهة الإستوائية” وقائد أكبر الفصائل المسلحة وغابت الحركة الوطنية بقيادة إيمانويل أجاوين بتأجيل الإنتخابات ذهبت المجهودات مع رياح المتغيرات المتلاحقة في جنوب السودان.
المجموعات المتنافسة لخلافة سلفاكير وخياراتها
إن تأجيل الانتخابات لعامين، رغم أنها تمت بموافقة طرفي الاتفاق زادت من حالات الاحباط السياسي الداخلي والدولي التي تري المشهد يزداد تعطيلاً خاصة بعد حوافز الحراك الشبابي في كينيا؛ فالتأجيل يزيد من حدة الاستقطاب للصراع حول السلطة ورغم تأكيدات سلفاكير من قبل بأن تأجيل الانتخابات يقود الي الحرب مجدداً، ولكنها تم تأجيلها رغم تصريحاته تلك، ولايزال الملعب السياسي في الجنوب محتشداً بالمجموعات المتنافسة والتي يأتي في مقدمتها “مجلس أعيان الدينكا ” أو “جينغ كانسل”.
أُعيد تشكيل هذا المجلس المتنفذ في البلاد في العام 2013 من أجل حماية قبيلة الدينكا من الاستهداف الداخلي والخارجي متخذاً شعار “الدينكا في خطر” ومركزاً أهدافه في حماية سلطة الدينكا. يعمل المجلس في ترابط يملأ فراغ السلطة المركزية في ظل تصفية وغياب الحركة الشعبية والتي يقف مجلس تحريرها موقفاً غير مرضٌ عنه داخل هذا الكيان والذي أبرز قادته السياسي المخضرم ألدو أجو دينق؛ ويحظي هذا المجلس بانتقادات كبيرة لتدخله في شؤون الدولة والوصاية عليها ولعب أدوار سياسية مؤثرة وبارزة عبر استغلال القبيلة ويتقمص دور البرلمان ووصفه معارضوه بـ “نادي العطالة”. عمل هذا المجلس لتكريس سلطة الرئيس سلفاكير وحمايتها بكافة الوسائل واستخدام القوة التي بسيطر عليها الدينكا في الجيش والأجهزة الأمنية في تنفيذ أهدافه غير أن خيارات المجلس محدودة في ظل الانسداد السياسي وعدم وجود خليفة لسلفاكير بعد تصفية حزب الحركة الشعبية من المناوئين له. واستطاع المجلس عبر الضغوط إعفاء وزير الدفاع انجلينا تيني (زوجة رياك مشار نائب رئيس البلاد) اعقبه اقالة المدير العام لمكتب الامن الداخلي الجنرال أكول أكور كوك والذي خدم لفترات طويلة تجاوزت ثلاثة عشر عاماوعين اكيج تونق اليو بديلا له والذي كان يشغل وكيل وزارة الدفاع وشؤون قدامي المحاربين وشغل منصب حاكم ولايةً وراب وتمت ترقيته. الي. رتبة. الفريق وكل. هذه. التغييرات موشر للصراع الخفي بين المجموعات المتصارعةً والأجنحة داخل الدينكا والتي تعمل جاهدة علي توسيع دائرة تحالفاتهم الداخلية مع الإستوائيين والمجموعات المسلحة، رغم خروج الجنرال ياو ياو من عباءتهم. كما تواجه مجموعة المجلس تحدي إحكام سيطرتها وتعزيز سلطتها بالتسويات مع المجموعات الأخرى من قبائل الزاندي والمورلي؛ فإذا فشلت نخبة الدينكا في إحكام قبضتها، فان أقصر طريق أمامها سوف يكون هو اللجوء إلى خيار الإنقلاب العسكري للمحافظة على سيطرتهم وهندسة الواقع مستقبلاً ولكن هذا الخيار تكلفته عالية وقد يقود البلاد إلى الانزلاق مجدداً في أتون الصراعات المدمرة.
مجموعة النوير وأمير الحرب ورجل السلام
أما المجموعة الثانية المتنافسة هي قبيلة النوير والتي تشكل القبيلة الثانية من حيث السكان ولها من النبوءات السياسية ما يشبه الأساطير. ويخوض النوير المنافسة وعلي قيادتها الدكتور رياك مشار أبرز القيادات التاريخية للحركة الشعبية والذي يتمتع بتعليم غربي رفيع ويتميز بصبر كبير، وكان إعلانه تحدي سلفاكير في الانتخابات السابقة بمثابة عود الثقاب الذي أشعل الحريق في الدولة الوليدة في العام 2013، وقاد الي تداعيات كارثية في البلاد.
ولكن مشار يخوض هذه المرة مارثون الصراع هذه المرة، وهو مسنود، بمجموعات عسكرية وسياسية، إضافة لوجوده في مناطق النفط، وهو الشريان الذي يغذي اقتصاد جنوب السودان. ومدعوماً أيضاً من مابيور قرنق (نجل زعيم الحركة الشعبية) بجانب زوجته الشرسة ووزيرة الدفاع السابقة انجلينا تيني والتي وصفها حليف سلفاكير القيادي تعبان دينق المنحدر من النوير بأنها هي من تحرك الصراع الجنوبي الجنوبي. إضافة إلى ذلك، يعتبر مشار كذلك خياراً مفضلاً لدى المجتمع الغربي بشكل عام، فلذلك تظل حظوظه عالية في الفوز بالمارثون الرئاسي القادم ما لم تقطع الطريق عليه الانقلابات أو العنف أو الجوار الطامع في التغول في دولة جنوب السودان.
مجموعات أخري
تبرز في الساحة الجنوب مجموعات مختلفة تمثل مجموعة الأحزاب الأخري المشاركة في الاتفاق (OPP)، وتحالف أحزاب المعارضة ، (SSOA) وهي مجموعات تطالب بإجراء حوار وطني عاجل. وهنالك تحالف “سوما” كما أن هذه المجموعات التي لم توقع على اتفاق السلام والحركة الشعبية، بجانب “مجموعة المعتقلين السابقين” التي لم تعلن بعد موقفها من تأجيل الانتخابات.
علاوة على ذلك، يغيب عن الساحة السياسية ما تُعرف بـ “أبناء قرنق” وهي تشكيلة الحركة الشعبية التاريخية والتي حاولت المجموعات الدولية إعادة بعض رموزها إلى الساحة مثل باقان أموم الأمين السابق للحركة الشعبية لتحرير السودان، والجنرال ملونق. بينما يغيب عن المشهد الدكتور لوكا بيونق الخبير في المعاهد الامريكية والمتخصص في شؤون الامن والدفاع. ووزير الخارجية الأسبق دينق ألور ونيال دينق وكوستيلو قرنق، بجانب انكفاء الخبير الأممي الدكتور فرانسيس دينق. علاوة على النقد اللاذع لأرملة موسس الحركة الشعبية ونائب الرئيس الحالي لمجمل الأوضاع بالبلاد.
وتمثل المجموعات العسكرية والمليشيات تهديداً كبيراً للاستقرار في الجنوب مثل الجنرال توماس سريلو بجانب العشرات من المجموعات المسلحة التي تنتشر في طول البلاد وعرضها، وهي تنتظر ما ستسفر عنه أيام جنوب السودان الحبلي بالمفآجات و الشائعات والأساطير .
*أستاذ بالجامعات السودانية.*