هربَ الحِصانُ ففيمَ إغلاق الإسطبل”؟   محمد المكي إبراهيم  أغسطس ٢٠٠٧

Spread the love

“هربَ الحِصانُ ففيمَ إغلاق الإسطبل”؟

 

محمد المكي إبراهيم

أغسطس ٢٠٠٧

 

***

شاهدت برنامج فضائية الجزيرة عن النفط السوداني، الذي جرى بثه بالخميس الثاني من أغسطس الجاري (٢٠٠٧) فأدخل على نفسي بؤساً وتعاسة لا يعلم بها إلا الله..

 

ومن فرط اليأس والإحباط استنجدتُ بالصديق كمال الجزولي فطلبته على التلفون، ورغم أنه كان عائداً لتوه من سفر إلا أنه قضى معي الدقائق الأربع والثلاثين التي يتيحها كرت التلفون مدفوع الثمن، دون أن نرفع عنا وعثاء اليأس من مستقبل أولادنا في وطن اسمه السودان..

 

وذلك أن البرنامج المذكور أقنعنا بالدليل والبرهان بأن بلادنا على وشك التمزق والانهيار، وأن ذلك سيبدأ في مدى ثلاث سنوات أو أقل بانفصال الجنوب عن الشمال، حاملاً معه تلك الثروة البترولية التي كنا نؤمل في استغلالها لمصلحة الطرفين وسعادتهما في وطن كبير يتوسط القارة الأفريقية، ويمكن أن يصبح من دولها المؤثرة..

 

وهكذا تبادلنا البكاء على أكتاف بعضنا البعض على الوطن الذي أنجبنا ورعانا، وبدورنا أنجبنا له الأولاد والبنات ليخدموه ويحرسوه وبعد عمر مديد يسلموه لأولادهم وأحفادهم.. فإذا كل ذلك أحلام تكفَّل ضوء الحقيقة الباهر بتبديدها..

 

وزاد من عمق المأتم مقالة للصديق Taha Alnuman في ”آخر لحظة” الغراء، شكا فيها شكوانا وبكى بكاءنا في مقالة تقطر دمعاً على مستقبل الوطن الذي تحتوشه مهددات أكبرها وأخطرها من صنع غفلتنا السياسية وقلة تدبرنا للعواقب..

 

ولا أريد هنا أن اتهم أحداً بضعف الوطنية أو قلة الاكتراث بما يصيب السودان وشعبه من نوازل الدهر، وإنما استنكر الغفلة والجهل الذي لا يليق بمن يتصدى للعمل العام. وأسوأ أبواب ذلك الجهل هو عدم استشارة المستشارين، وعدم العودة لأهل الاختصاص وعدم التروي قبل اتخاذ القرار النهائي.

 

الفكرة الأساسية للبرنامج تقول إن الأمريكيين ممثلين بشركة شيفرون هم الذين اكتشفوا النفط السوداني بتكلفة مقدارها (16) ملياراً من الدولارات، ولكنهم اضطروا للخروج من السودان قبل أن يستغلوا ذلك النفط تجارياً..

 

وفي غيابهم قامت حكومة السودان بالتصرف في تلك الاكتشافات وأتاحتها للآسيويين من صينيين وماليزيين، ولذلك قرر الأمريكيون استعادة مواقعهم المفقودة عن طريق المدخل الجنوبي للبلاد، فضغطوا في مفاوضات نيفاشا حتى تقرر حق تقرير المصير للجنوبيين، وذلك أملاً بأن يختار الجنوب الانفصال فتؤول إليه كل الحقول النفطية. ونظراً لعدم الانسجام بين الجنوبيين والصينيين فسوف يتم استبعاد الأخيرين، وعودة الأمريكيين من الباب الخلفي.

 

كنت دائماً ضد تقرير المصير للجنوب، وقد يشهد لي بذلك الأستاذ طه النعمان الذي نشرتُ في صحيفة (أخبار العرب)، حين كانت تحت رئاسته، عدة مقالات تستنكر الفكرة وهي بعد فكرة واستوى عندي في ذلك رضاء المعارضة بذلك وسماح نفسها به في مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا، ومن ثم رضاء الحكم وموافقته الملزمة على نفس القسمة الظالمة..

 

وقد نجد للمعارضة بعض العذر لا أقول كل العذر، لكونها تستقوي بالحركة الشعبية وتريد أن تكسبها لجانبها مضمرة لها الغدر أو الوفاء، وكلاهما معيب.. ولكن ما هي مبررات الحكم، ولماذا ارتضى المغامرة بمستقبل الوطن؟! وماذا كان يخاف، وماذا كان يرتجي من توقيع اتفاق في قبح نيفاشا وظلمها لأجيال السودانيين!!

 

وهو اتفاق لم يسبقنا إليه أحد، فليس في الدنيا دولة قبلت باقتطاع شبر من ترابها لتكسب السلام ويرتاح أهلها من القتال، وفي تردادي لتلك الأقوال كان كثيرون يشيرون إلى إريتريا بوصفها الاستثناء الوحيد، وكنت أرد قائلاً إن إريتريا لم تكن يوماً جزءاً من إثيوبيا وإنها بلد مستقل عهدت به الأمم المتحدة لإثيوبيا لترعاه حتى ينال استقلاله، وبدلاً من تلك الرعاية قام إمبراطور إثيوبيا بضمها إلى إمبراطوريته، فلا عجب أن تستعيد إريتريا حريتها وكيانها المستقل.

 

عموماً لا داعي لهذه الحسرة وقد قُضيَ الأمر، (وقد هرب الحصان فلا فائدة من إغلاق الإسطبل)، وعلينا أن نستعد لمستقبل بائس يؤكد وضعيتنا في طليعة الدول الفاشلة، فليس هنالك من فشل أكثر من تمزيق الوحدة الترابية للبلاد والتفريط في إقليمها.