برحيل الفقير لرحمة مولاه: *محمد المكى إبراهيم* وتحديقه فى الموت بمصر المحروسة :

Spread the love

احمد الامين احمد

*الملائكة المسبحة بحمده تصطف بحجم الفراشات لتكتب إسمه باجسادها النورانية وقد انفصل برحيله الجمر عن صندل الشعر وغدت أجمل كنوزنا مطمورة فى التراب*

 

هذا والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغنى خبر تحديقه فى الموت عبر إحدى كريمات (فريق القبة) القديم بالابيض فحل الديوم وقد كان لواء الشعر السودانى القديم مرفرفا فى فضاء هذا الحى الذى يمثل متحفا بشريا عبر سجل مواليده فى الفضاء الحضارى للسودان القديم .

برحيل الفقير لرحمة مولاه:

*محمد المكى إبراهيم* وتحديقه فى الموت بمصر المحروسة منتظرا نفخة البعث ثم النشوز وقيل النشور:

تستعيد السماء وديعتها(لؤلؤ الشعر)

من عالم كافر بالسماء وأشعارها

تستعيد السماء طفولتها

وتعود(اليه) طفولته الذاهبة

وها (هو) يجلس بين(الإسماعيلية )بدرا.

أو كما قال رحمه الله(فى مبارزة الموت والشعر) حين:

اظلمت بوابة الشعر

وأبواب الفراديس اضان

حين حدق مجذوب (الشرافة والنار) فى الموت . وتم دثره ثرى ترب فاروق وبها مطمورة اعظم كنوز الوطن الحضارية من لدن عثمان حسين ومحمد وردى وكفى.

لو لم يكتب محمد ابراهيم سوى غناء لأختى أمان و كيف ترتحل الان؟ والاخيرة رثاء للشاعر المجذوب لكفاه .

لقد توقفت على نحو الخمسين خريدة فى رثاء المجذوب منذ تحديقه فى الموت ابرزها خريدة كجراى، ابو ذكرى، عبدو الله الشيخ البشير، دفع الله الحاج يوسف، الهادى ادم (على جدث المجذوب) جميعها عيال فى الشعر على مرثية صاحب أمتى وبها مخاطبا المجذوب فى جدثه بترب فاروق:

من سواك ليفرط رمانة القلب حزنا

لاجل الصبايا

تجرجر اسمالها

والولايا تنوء باحمالها

والصغار يعودون من مولد عامر

بالغبار؟

وهى كما لايخفى تجلى لقصيدة المولد للمجذوب التى عبر ترنم الكابلى الراقى بها سبحنا مع النجوم فى علو لو تعلمون عظيم. واجمل ترنم للكابلى بها حين شدا بها على المزهر فقط فى نادى الجسرة بالدوحة القديمة وقد تحول المشهد إلى حضرة زكية خاصة حين طلب كابلى من السودانيين المتأملين فى صدحه الراقى أن يرددوا:

الله الله الله الله الله الله الله الله الله

وقد قام بمهارة باعادة دوزنة أحد أوتار مزهره السحرى ليردد:

وهنا حلقة شيخ يرجحن

يضرب النوبة ضربا

حين يشدو كابلى بليلة المولد يمتزج القادرية بالمجاذيب وحين يرثى شاعر أمتى المجذوب يتجلى السادة الإسماعيلية فى(سموم الدامر) فى(نار المجاذيب) .

علمت من مصادرى بالمحروسة أرض ممات شاعر أمتى حضور الشاعرين عالم عباس(ود الغرب البسر القلب ) و عبدالقادر الكتيابى على بوابة غرفة الإنعاش وشاعر أمتى يحتضر وهنا يتجلى أهلى(التجانية ) فى حضرة السادة(الإسماعيلية) قوم محمد المكى إبراهيم .

وقد نبهنا الشاعر فضيلى جماع فى(قراءة فى الأدب السودانى) أن السادة الإسماعيلية يمنحون ذكرانهم أسماء مركبة كأن تقل:

محمد المكى

محمد الحنفى

محمد البكرى وهلمجرا ذلك حين كتب فضيلى جماع عن(شاعر قضيته الوطن) هو شاعر أمتى جعل الله قبره روضة ونور.

لا ادرى كيف اذاع تلفزيون ومذياع(أمتى) خبر رحيل شاعر أمتى زمن الحرب لكن حين مات جان بول سارتر قطع تلفزيون فرنسا البرمجة ليعلن المذيع ان(هذا اليوم يؤرخ برحيل جان بول سارتر) .واذكر جيدآ العام ١٩٩٨ حين مات الشاعر الانجليزى Ted Hughes الذى يعد the greatest British poet since the end of the second world war قطع BBC NEWS برمجتها واذاعة الخبر ثم تحولت إلى special coverage لثلاثة أيام خصصتها لهذا الشاعر وقد تحركت الكاميرات بحرية فى كل المغانى التى ارتبط بها واشهرها local pub كان يرتاده كثيرا to sip خاصة بعد وفاة زوجته ودخوله فى Depression.

للأسف الشديد كل المغانى القديمة التى ارتبط بها محمد المكى إبراهيم فى حياته الأولى بوطنه القديم يستحيل الحركة فيها واليها لحظة وفاته بسبب خروجها عن المألوف وتحولها الى killing area وللأسف الشديد مدينته الأبيض فى حصار و تتعرض حتى مشافيها لقصف اهوج من الميلشيا الجاهلة والجاهلية.

رغم تحديق شاعر أمتى فى الموت وهو اخر حامل للواء الشعر السودانى القديم يظل هذا اللواء فى غرب السودان _حسب التقسيم الثلاثى للسودان بعد ذهاب الجنوب علمآ أن ابن حى القبة الأشهر ود القرشى قد خلد الأربعة اتجاهات للسودان القديم فى(الذكريات صادقة و جميلة).

عبر اوراد الإسماعيلية رغم حصار الأبيض ينطلق موكب حزين تجاه فاشر السلطان رغم حصارها بواسطة الجنجويد ليتسقبل تجانية الفاشر لواء الشعر من اهل المرحوم محمد المكى إبراهيم ويرفعونه على سارية حوش العالم الثبت الحافظ الفكى عباس محمد نور والد الشاعر عالم عباس محمد نور الذى اجازته العام ١٩٧٤ نخبة من شعراء السودان القديم أميرا على الشعراء الشباب وظل من تلك اللحظة منتظر عقد لواء الشعر السودانى له بعد موت إدريس جماع ١٩٨٠ و المجذوب ١٩٨٣ ثم تبادل اللواء بين عدة شعراء جميعهم فى جنات ونهر منهم كجراى، مصطفى سند، النور عثمان ابكر، محمد الواثق واخيرا محمد المكى إبراهيم مع ملاحظة أن هؤلاء الشعراء ينتمون عبر تنوع صوفى وجهوى لمعظم كيانات السودان القديم كالختمية (كجراى ) ، السمانية(محمد الواثق ) وارجح والله أعلم أن سند سمانى بحكم الجغرافيا و النور عثمان أبكر تجانى رغم طغيان الختمية بكسلا والشرق عموما لكن بها تجانية والله أعلم.

من أجمل برامج التلفزيون السودانى القديم التى تابعتها بتركيز شديد، تلك السهرة المحضورة شتاء ١٩٨٩ فى مرور أربعين يوما على وفاة الشاعر محمد عبدالحى ، وقد كان ضيفيها الشاعر محمد المكى إبراهيم و عبدو الله على إبراهيم وهما من أعرف الناس بمحمد عبدالحى. ذكر عبدو الله على إبراهيم أن عبدالحى قال ما معناه حين فتحت طبقات ود ضيف اندهشت غاية الاندهاش من سحريته فقاطعه محمد المكى إبراهيم( و منو الما اندهش لمن تأمل طبقات ود ضيف الله ) . فى تلك السهرة قرأ محمد المكى مرثية عنوانها(ماذا فعلت بالخوذة؟) مرفوعة لروح المرحوم محمد عبدالحى وعبر قاموسها وصورها تحس كأنك تقرأ قصيدة لعبدالحى وليس مرثية له خاصة أن قاموس محمد عبدالحى special made for him و تكثر به الحيوانات والحشرات والزواحف بصورة يقشعر لها البدن.

الخوذة فى العنوان هى خوذة شرطى غنمها محمد عبدالحى من معركة طلابية فى ثورة أكتوبر ضد الشرطة على شارع القصر قبالة ما كان يعرف بسيلما كوليزيوم لمن يتذكر جغرافيا الخرطوم القديمة . وأجمل مافى القصيدة توسل محمد المكى أن لا يرحل محمد عبدالحى حتى يبلغان سن المعاش كى ينعما بالجلوس على ظل الضحى على كرسى القماش كى يجتران their old good days لكن حدق عبدالحى فى الموت وصارت(أجمل كنوزنا مطمورة فى التراب).

علمت من مصادرى بالمحروسة أن جدث المرحوم محمد المكى إبرهيم سوف يكون بمقابر الفيوم أول الوجه القبلى وحقا :

 

( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير )

هل سيبقى هذا الجدث ريثما تعود الحياة الى وطنه السودان ويتم نقله الى(مقابر دليل،) بالابيض أرض ميلاده وعشيرته عبر جنازة وطنية؟

اللهم ارحمه واغفر له واجعل قبره روضة ونور وأنعم عليه بالشفاعة والسقيا والفردوس وبارك فى اهله إلى يوم الدين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الموت حق.

مرثية محمد المكى إبراهيم للشاعر محمد عبدالحى تقرأ:

 

سوف تصطف ملائكة بحجم الفراشات

لتكتب اسمك باجسادها النورانية

وترسم بتلك الانوار

سهما يقودك عبر ممرات الابدية

الى منبع الحب والسلام.

 

مكللا بمجد حياتك القصيرة

ستمثل أمام ذلك العظيم

خائفا كولد يمضي الى موعد غرامه الأول

مرتعشا كجندي يتلقى وساما

سعيدا كعصفور يهرب من قفص

واذا كنت اعرفك جيدا

فسوف تطلب ان يحيلوك الى نسر:

نسر ذهبي الريش

بعينين خضراوين

وأجنحة من الفولاذ

ويطلقونك في غابة الصنوبر

بين الأغصان المتكاثفة

مع الهواء الهاب

فوق النهر والوادي والجبل

طرائدك الغزلان البرية

وفرائسك القصائد

لأنك وقد ذقت حليب الكلام

صار صعبا فطامك

لآنك وقد شهدت مولد الزمان

في سنار المحروسة

ستمضي موقعا على ربابتك

بين صفوف الفرسان السود

في سلطنة زرقاء

بلون السماء الضاحية

بلون المقعد المعدني

بلون أربعة ألف يوم من الحبس القاسي

لروحك الأنيس.

 

آه من تلك الايام السعيدة

في بيت جدتك

ونحن نسجل أسمائنا في لوح الزمان

ليمسحها المطر النادف

و يثبتها (عمار) الايام

 

وليلة الثورة حين رقصنا في الشوارع

رصيفا بعد رصيف

وامام المستشفى

صبيحة النصر

جردنا شرطيا من خوذته

وحفظناها كتذكار.

 

آه من تلك الايام

حين أطلقونا على الخرطوم كالوعول

كقذائف مدفعية

فهنالك وعند ذلك اخترمتنا الايام

 

ماذا فعلت بالخوذة؟

كان ينبغي يا أرباب

أن تضعها على رأسك الجميل

 

ضد الظلمة المتحالكة

ضد العمر المتآمر والسعادة الهاربة

ولكن هاهي الوعول

تأوي الى شعب الجبل

مقطوعة الأنفاس

وتحت البيرق الابيض

تنتظر رصاصة الرحمة.

 

لقد حلمنا بأجمل من كل ذلك

ولكن تبددت الأحلام

وها أنت تذهب

والأحباب يروحون واحدا واحدا

الى أن تغدوأجمل كنوزنا مطمورة في التراب

 

وعندئذ نكون قد غدونا عجوزين

وتختلط الذكريات بالأوهام

والأحلام بالوقائع

وتستحيل الذكرى الى هلواس.

 

ومع أن الفرق ضئيل

إلا أنه كان أفضل كثيرا

لو بقينا معا

الى ما بعد سن التقاعد

لنشرب قهوتنا في ظل الضحى

محاولين أن نستعيد الذكريات

ونتناقل القصائد

بينما يختلط كل ذلك

بالوهم الجميل

والاحلام النبيلة المولية.

إنتهت.

أما مرثيته للمجذوب فمن شاء فليتمسها فى ديوان( يختبئ البستان فى الوردة ) أو الأعمال الشعرية الكاملة.

الفقير لرحمة مولاه:

*أحمد الأمين أحمد يوسف*